الأخذ والعطاء.. درب المريد إلى ملكوت السماوات

الجميع يتحدث عن أهمية العطاء والتضحية وتقديم الصدقات، لكن لا أحد يتكلم فن قبول الهدية والأخذ والاستلام، لماذا يا ترى؟ إن لم أكن قادراً على استلام عطاء إنسان آخر، فكيف سأتمكن من استلام عطايا المكوّن؟ إن لم اعتد على قبول القليل، فكيف سأتمكن من قبول الكثير الكثير؟؟
عندما نبدأ رحلة التأمل، تبدأ العطايا بالهطول علينا كما ينهمر المطر على الأرض.. تتحول إلى سيل جارف تغسل الأوساخ وتزيل الصخور حتى تصل إلى المحيط.. فإن لم أكن مستعداً لتقبل هذه الهبات السماوية، ستجرفني مثل باقي الصخور.. و إن كنت دائماً أبحث لأقدم وأعطي دون أن أتعلم كيف أقبل واستلم، سيكون من الصعب أن آخذ كل هذه الهديا.. لذا لا تبخل في مشاركة “قبولك”.. نعم حتى “أن تقبل” هي مشاركة.. فلولا المستلم لا يمكن أن يوجد مرسل.. وإلا ستشعر بعدم الراحة عندما تصل الهدايا وبدل أن تفرح ستخاف ويصيبك الارتباك.. وهذا ما يحدث مع الكثيرين، ما أن يأتي شيء إليهم حتى يبتعدوا عنه لخوفهم منه..
انتبه ولا تقم برمي النعمة بعيداً.. فإن حدث ذلك ستخسرها وقد لا تأتي إليك مرة أخرى إلا بعد زمن طويل.. كن مستعداً لتقدم يديك الخاليتين.. اقتح قلبك واستلم هدايا التأمل.. حتى وإن شعرت بالخوف من المجهول فغامر وادخل فيه راقصاً مبتهجاً فرحاً.. كل ما يحدث خلال التأمل يكون للحق.. وحدها التبريكات تهطل، فلا تخف.. ولا تنسى أن تشكر، فبالشكر تدوم النعم..
لأننا لم نعتد على الأخذ، أصبحنا غير مهتمين بما يقدمه لنا المكوّن، وبدل ذلك زاد اهتمامنا بما يحظى به الآخرون.. هذا ناتج عن طريقة حياتنا حتى وإن كانت بعيدة عن الفكر فهو يترك أثره فينا.. كالأثر الذي تتركه الأفعى في الرمال بعد زحفها عليه.. لكن تذكر أن تجربتك هي تجربة إلهية مقدسة أيضاً وعليك اختبارها وعيشها كاملة.. فكما يحظى الآخرون باختباراتهم، انت أيضاً لديك اختباراتك.. تمتع بها واختبرها فهذه هي الوسيلة لكي تنمو وتشتعل بالنور.. كل شيء يحدث في وقته، وإن أردت تجربة أحد آخر، فلن تأتي إليك إلا في الوقت المناسب.. لكن تذكر، إن كنت دائم النظر إلى تجارب الآخرين ستنشغل عن تجاربك الخاصة ولن تستطيع النمو لتتجاوزها وتحلق أعلى وأعلى بل وستبدأ مشاعر التعاسة والبؤس..
أن نشعر بالتعاسة يعني أننا لا نثق بالحكمة الإلهية.. وسببها أن ميزان الأخذ والعطاء غير متوازن لدينا.. فالشخص الذي لا يستطيع أن يقدم عطاءه، لن يكون قادراً على الاستسلام والأخذ.. سيشعر بالخوف إذا شارك ما لديه.. فما يملكه اليوم قد يختفي غداً، لذلك ينزوي على نفسه ويغلق جميع نوافذ المشاركة حتى يحمي ممتلكاته.. لكن هذه النوافذ هي نفسها التي تجلب النور وتضيء المكان.. وإن أغلقها، سيعم الظلام ويختفي الفرح من المكان.. لن تستطيع نسمات الهواء من حمل عبير الأزهار وإحضارها إليه.. سيصبح تعيساً وحيداً يائساً.. مثل الشجرة بلا جذور.. ستصبح حياته موتاً بطيئاً بدل أن تتحول إلى فرح عظيم واحتفال..
يقول المسيح: “اتبعني وسأعطيك ملكوت السماوات”.. ما معنى ملكوت السماوات؟ ببساطة إنها تعني الاتحاد مع الأكوان.. أي أن تموت الأنا وتختفي الموجة في المحيط.. تذوب حدود الفصل ولا يكون هنالك إلا الوصل بالأصول.. في هذا الحال سيتحول كيانك إلى قلب مفتوح يرسل ويستلم بكل فرح وسرور.. وستكتشف الفرح الأكبر وهو أنك كلما شاركت أكثر، ستعود إليك العطايا أكثر..